شاعرنا يتحدث عن نفسه
(ولادته في شهر التغير والتحولات)
"يوم ولدت في21في آذار1923 في بيت من بيوت دمشق القديمة ، كانت الأرض هي الأخرى في حالة ولادة..وكان الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء.
هل كانت مصادفة يا ترى أن تكون ولادتي في الفصل الذي تثور فيه الأرض على نفسها، وترمي فيه الأشجار كل أثوابها القديمة؟أم كان مكتوبا عليّ أن أكون كشهر آذار ، شهر التغير والتحولات.
كل الذي أعرفه أنني يوم ولدت كانت الطبيعة تنفذ انقلابها على الشتاء...
هذا ما كان يجري في داخل التراب ، أما في خارجه فقد كانت حركة المقاومة ضدالأنتداب الفرنسي تمتد من الأرياف السورية إلى المدن والأحياء الشعبية .وكان حي " الشاغور" ، حيث كنّا نسكن ، معقلا من معاقل المقاومة ، وكان زعماء هذه الأحياء الدمشقية من تجار ، ومهنيين وأصحاب حوانيت ، يمولون الحركة الوطنية.ويقودونها من حوانيتهم ومنازلهم.
أبي" توفيق القباني " ، كان واحدا من أولئك الرجال ، وبيتنا كان واحدا من تلك البيوت.
لم تكن مخيلتي الصغيرة في تلك الأعوام من الثلاثينات قادرة على وعي الأشياء بوضوح.ولكنني حين رأيت عساكر السنغال يدخلون في ساعات الفجر الأولى منزلنا بالبنادق والحراب ويأخذون أبي معهم في سيارة مصفحة إلى معتقل تدمر الصحراوي،عرفت أن أبي كان يمتهن عمل غير صناعة الحلويات...كان يمتهن صناعة الحرية."
(حلم الطفولة)
"عندما كنت في سن الثالثة عشر ، كان ضيوف أبي يسألونه:
- ماهي اهتمامات نزار؟ ماهي هواياته؟ ماذا يريد أن يكون؟..
فيجيبهم أبي بكل بساطة:
- إبني .. يريد أن يكون شاعرا...
فيتغير لون سائليه ، ويتصبّب العرق البارد من جباههم ، فيلتفتون الى بعضهم قائلين:
- لا حول ولا قوة إلا بالله.. قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا..
كنت أسمع التعليقات الدراماتيكية ، فأتصوّر أن الشعر والكارثة شيء واحد.. وأن عفريتاً من العفاريت قد ركبني ، ولابد من أخذي إلى أحد الشيوخ الصالحين في حارتنا ، ليكتب لي حجاباً يشفيني من كوابيسي.. ويطرد العفاريت من رأسي..
إن ربط الإبداع بالجنّ والعفاريت.. تكتيك عدواني مقصود.. غايته الترهيب والتخويف..
فالمتضرّرون من الشعر كثيرون ، والمتربصون كثيرون ، والخائفون كثيرون...لأنه يدعو إلى تغيير الإنسان والعالم.
فرجال الدين كانوا ضده.. والعلمانيون كانوا ضده..
والماركسيون كانوا ضده.. والرأسماليون كانوا ضده..
والمحافظون كانوا ضده.. والتقدميون كانوا ضده..
والفلاسفة كانوا ضده .. والعلماء كانوا ضده..
وحدهم الأطفال ، والنساء ، والمجانين كانوا مع الشعر..."